حتى لقائهما الأول عام 1962 لم يكن أي من الشيخ إمام أو أحمد فؤاد نجم قد تحقق فنياً في مجاله الغنائي أو الشعري إلى أن سمع الشيخ إمام من نجم قصيدة «أتوب عن حبك» التي قرر أن يقوم بتلحينها له، لتبدأ علاقة شخصية ستكون بمثابة علامة فارقة في تاريخ مصر والوطن العربي تستنهض الكثير من الأقلام للكتابة عنها.
كان إمام ونجم في البداية وحتى عام 1967 من الشخصيات التي تحاول أن تجد مكاناً في الساحة الفنية الثرية آنذاك، حتى إنهما أقاما حفلاً في نقابة الموسيقيين وفتحت لهما أبواب الإذاعة، إلى أن وقعت نكسة يونيو 1967 التي ستغير من علاقة الرجلين بالنظام الناصري الحاكم، وكذلك ستغير من طبيعة فنهما، ليصبحا الصوت الموازي للأغنية الرسمية، وأيضاً للسردية الرسمية للدولة عن ذاتها، واختمرت تلك التجربة وعبرت عن نضجها الكامل في عقد السبعينيات الصاخب الذي بين بدايته ونهايته، تبدل شكل مصر تماماً، فبينما كانت مصر منقوصة السيادة على جزء من أراضيها في أول العقد، ستسترده في نهاية العقد، وبينما كان الشعب في بداية السبعينيات متكتلاً في تحالف القوى العاملة وحلم الاشتراكية الكبرى، أصبح في نهاية العقد شعبين مختلفين لا يعرف بعضهما الآخر، ولا يحدد علاقتهما سوى الخوف، كما غنى الشيخ إمام في أحد أغاني «تعيش كل طايفة/ من التانية خايفة/ وتنزل ستاير بداير وشيش».
في ذلك المناخ العاصف، كانت الصحافة تكتب وتؤرخ، والسينما تصور وتسجل، أما الأغنية الوطنية فكانت في تراجع شديد مقارنة بقيمتها في عقديّ الستينيات والخمسينيات، إلا الشيخ إمام ونجم اللذان قررا أن يؤرخا مجتمعهما بأغنية وطنية موازية، متحررة من كل القيود المعهودة.
من المدهش أن ترى مدى معاصرة القضايا التي تحفل بها أغاني الشيخ إمام وكأنها تعبر عن واقع يُعاش اليوم حتى في استدلالاته اللفظية، ففي أغنية «يعيش أهل بلدي» عبر إمام عن وجود مجتمعين يواجهان بعضهما، كما نقول اليوم: مصر في مواجهة إيجيبت.
كان الفلاح والصانع في مواجهة «مكن أهل كايرو»، وكان هناك أهالي القاهرة البسطاء في أحيائها القديمة في مواجهة «حي الزمالك» حيث يعيش التنابلة على حد تعبير إمام، إن ذلك الوعيّ بالطبقة والمكان هو ما خلق الأسطورة.
في شقة «حوش قدم» تلك الحارة الصغيرة في حي الغورية التي لا تزال صامدة ويفخر أهاليها حتى اليوم بذكريات مجاورة إمام ونجم، اختبر كاتب المقال بنفسه صدق مقولة إنهما كان فناني الشعب والحارة حتى إنهما كانا يقيمان كثيراً من حفلاتهما وتسجيلاتهما الشهيرة داخل الشقة بحوش قدم، حينما حكى له أحد العاملين بالمقهى تحت منزل إمام الذي كان بمثابة صبي الطلبات للشيخ ونجم، كيف أن الرجلين جعلا الحارة كعبة لزائرين من مختلف الأوساط الفنية في مصر، من عادل إمام لعلي بدرخان وسعاد حسني، كما أنها نفس الشقة الصغيرة التي احتضنت موهبة محمد منير حين كان شاباً حالماً في بداية طريقه. إضافة إلى الباحثين الغربيين المهتمين بذاك الفن، الذي ذكر الكاتب صلاح عيسى في كتابه «شاعر تكدير الأمن العام» أحد المواقف الطريفة التي قُبض على أحد الباحثين الفرنسيين في مداهمة معتادة من الشرطة المصرية لمنزل إمام ونجم.
الحارة التي سكنها إمام ونجم طيلة أعوام
لقد كانت تجربة إمام ونجم هي الوسيط الثالث الأكثر تبسيطاً بين السينما والصحافة، فبينما تتحدث السينما في كثير من أفلام تلك المرحلة وأعقابها عن القطط السمان والانفتاح وآثاره ولكن دون إجابات مباشرة قد يفهمها المواطن البسيط، ويتحدث محمد حسنين هيكل بلغة صحافية في خريف غضبه عن عهد السادات وشخصية رشاد عثمان كرمز للصعود في عهد الانفتاح تربحاً من الصفقات والسمسرة والفساد، كانت أغاني الشيخ إمام هي السحر الذي جمع بين السينما والصحافة ولغة الشارع، لذلك تحلق حولها البسطاء والنخبة الثقافية اليسارية كذلك.
يُعبر إمام ونجم عن القطط السمان ورشاد عثمان في أغانيهما، بحكايا طريفة، أشبه بمقاطع كوميدية ساخرة، ولكنها نافذة إلى أبعد حد في تعرية الفساد وعطب النظام. في أغنية «بوتيكات» يبسط الرجلان حال البلد في عصر السوق المفتوح وعهد الانفتاح، بتسميّة ذلك الوضع الاقتصادي بأن البلد أصبحت بوتيكات وفي تلك الأغنية نلحظ السخرية تلاصق الجدية، فتكمن السخرية في أداء الأغنية كفازورة حافلة بكثير من الكلمات الكوميدية مثل بوتيكات النات كوا نات وشبيك لبيك فتح مخك/لبيك شبيك غمض عينيك/ ح تقفل مخك ح نطخك/ ونلوشك لو تفتح عينيك.
وتحتوي الأغنية ذاتها على نموذج رشاد عثمان عامل الميناء الشيّال البسيط الذي تحول إلى ملياردير في غضون أربع سنوات من عهد السادات، حيث تقول الأغنية «مين فيكوا ميعرفش عليوة شيّال المينا الكحيان؟/ في ثواني اتمول واتحول بقى مسيو عليوة عليان» ثم يجيب إمام عن سر اللغز شارحاً حال البلد الذي يسمح لعليوة وغيره بالصعود «إزاي ما هي بوظة ومفتوحة/ على حس ولاد المفضوحة».
كما أن نموذج المتسلقين يخصص له نجم وإمام أغنية أخرى بحد ذاتها على نمط النكتة كذلك، التي يشترك فيها «الكورس» ليُعطي جو الأغنية الكوميدي، سموها «شعبان البقال» وهي الأغنية التي تستدعي حالة البقال الذي «من بعد الجلابية/والفوطة الدبلان/في رقابيه المهرية/من هبش الأكلان/والدوخة الأزلية والنوم في الدكان/بقى صاحب عربية وعماره وسكان».
وكان العصر يحفل بعديد من النماذج الأخرى التي أرخها إمام ونجم في أغانيهما بشكل طريف، ففي حالة التحول من الاشتراكية القومية العربية إلى النمط الإسلامي القومي اليميني المحلي الذي أرساه السادات، تغيّرت شخوص بعض الساسة لكي تطفو على السطح في ذلك العصر، وهو ما تؤرخه أغنية «حلاويلا» التي تتحدث عن الشخص المجهول، ومجهوليّته لا تعني كونه لغزاً، بل هي إشارة عامة إلى كثير من النماذج التي لا يمكن تسميّتها، ففي «حلاويلا» نرى الشخص «الثوري النوري الكلمنجي/ هلاب الدين الشفطنجي» الذي «يتمركس بعض الأيام/يتمسلم بعض الأيام/ويصاحب كل الحكام وبستاشر ملة» وبتلونه كالحرباء استطاع أن يكون «إش حالك يا قريب اليوم؟/إش جاب التفاح للدوم؟/إش جاب الأوضة ببدروم للعربية وفيلا؟».
واحدة من الأسرار التي قربت إمام ونجم من الشعب هو استخدامهم للغة شعبوية، فيمكن أن تعرض مشاكل الأمة من خلال مشاكل الطعام والمركب دون الخوض في تفاصيل سياسية كما يراها الفقير.
كانت أغنية «الفول واللحمة» مثالاً، فهي تمدح مزايا الفول وتزدري اللحمة في سخرية تبرر حرمان وعدم قدرة عامة الشعب على شراء اللحم وأكله، بل وإن من صالحهم الاستمرار في أكل الفول، والأغنية تأتي على لسان أحد مسؤولي الصحة التابعين للحكومة الدكتور محسن الذي من فرط تحيزه للفول، يتهم أكلي اللحمة بدخول جهنم. وهنا يتدخل الشيخ إمام والكورس للرد على الدكتور محسن
«يا دكتور محسن يا مزقلط/يا مصدر يا غير مسؤول/ما رأي جنابك وجنابهم/ في واحد مجنون بيقول/ إحنا سيبونا نموت باللحمة وانتوا تعيشوا وتاكلوا الفول/ ما رأيك يا كابتن محسن مش بالذمة كلام معقول؟» وكذلك يحضر الطعام في أغنية «هما مين وإحنا مين؟» والتي تحدد وضعية شعب يناقض جاره في الوطن من خلال نوعية الطعام والملبس والمشرب ووسيلة المواصلات، وهي أحد الأغاني الشهيرة التي غُنيت في احتجاجات الطلبة في جامعة القاهرة التي كانت مبكرة على انتفاضة الخبز 1977، حيث يحدد إمام هما في مواجهة إحنا سائلاً هما مين وإحنا مين؟ ويغنيها إمام أيضاً بنمط الفازورة حزر فزر، ويشارك فيها الكورس والجمهور.
لكل فريق العديد من السمات الخاصة به، هما «حيوانات استهلاكية شغلتهم حشو المصارين» وإحنا «الحرب حصادها ونارها/إحنا الجيش اللي حررها/وإحنا الشهدا في كل مدارها منكسرين أو منتصرين». وفي نمط العيشة، هما «بيلسبوا آخر موضة» وإحنا «بنسكن سبعة في أوضة» هما «بياكلوا حمام وفراخ» وإحنا «الفول دوخنا وداخ» هما «بيمشوا في طيارات» وإحنا «نموت في الأوتوبيسات» هما «حياتهم بمبي جميلة/هما فصيلة وإحنا فصيلة».
كذلك انتبه الشيخ إمام ونجم لتآكل شرعية الرئيس المنتصر على إسرائيل والرئيس المحرر لسيناء حينما كانت تلك الشرعية مبرراً لإعادة الهيّكلة الاجتماعية بشكل جسر الفجوة بين الطبقات، وسلب الفقير قوت يومه، وهو ما يسجلونه في الأغنية الفصحى الوحيدة، مع ترصيعها ببعض كلمات من العامية، التي غناها إمام في تونس للمرة الأولى، «قصيدة الشحاتين» التي تشرح المجتمع كذلك في أعقاب الانفتاح، مركزة على الثيمة الرئيسية عن شعب يواجه الآخر، وتزيد في عرض أحوال الشعب المصري الذي أصبح يسكن القبور، ويكن الكراهية والحقد الطبقي للغني، حيث يقول إمام في تفسيره لأحداث انتفاضة الخبز يناير 1977 التي كانت المدلول على نفاد صبر المصريين تجاه تحولات عقد السبعينيات العاصف
«سبحان الله أيا بلدي! قد زاد القهر على جلدي/فإذا لم تعطِ ولم تهبِ، سأموت غريقاً في قهري/ الناس تئن من العيّش/ في ثوب القهر من الخيّش/ والسيد يمشي بالبيّش مزهواً في ثوب الفخر» ويختتم إمام الأغنية بمقطع يعلن التمرد التام على المظاهر الوطنية التي تكون ستاراً لأكل قوت الناس «قد قالوا سلاماً ورخاء/ الخير إلى الناس تراءى/ فازدادوا غلاء فثراء/ فكرهنا أقواس النصر/ النصر إذا لم يُعطِنا/ قوت الأطفال ويحمينا/ فبماذا نفرح يا سينا/ عُدتي أو غُرتي إلى القبر!».
من التسجيلات التي خلفها إمام ونجم وراءهما، يتضح لنا أمراً بجلاء، أن تلك الأغاني كانت من الناس وإلى الناس، فالشيخ إمام في كل تسجيلات أغانيه كان يعطي مساحة للجماهير للاشتراك في الأغنية والتفاعل معها سواء بالضحك الصاخب والقهقهة، وطرح الأسئلة، وترك الكلمة للجمهور، لم تكن حفلات كلثومية للجمهور دور محدود فيها، بل كان الجمهور جزءاً من الأغنية، وهذا ما التفت إليه الفيلسوف المصري فؤاد زكريا في وصفه لتجربة الشيخ إمام في أحد مقالات عدد مجلة «القاهرة» في رثاء الشيخ إمام بعد موته في نفس السنة 1995، حيث يقول زكريا «والحق أن الحديث عن الجمهور المستمع أمر لا مفر منه إذا شاء المرء أن يفهم ظاهرة الشيخ إمام فهماً سليماً، ذلك لأن أداءه لا يتصور بغير جمهوره وبغير جمهور متجاوب. ومن هذا فإنني لا أتصور أنه سيصبح في يوم من الأيام نجماً من نجوم وسائط الإعلام الإذاعية حيث لا تقوم علاقة حية مباشرة بين الفنان وجمهوره.. إن ظاهرة الشيخ إمام تزيل الحواجز بين الفنان والناقد الاجتماعي والداعية السياسي، وتزيل الحواجز بين الطليعة من المثقفين والبسطاء من الناس، وتزيل أيضاً كل حاجز بين القائم بالأداء وجمهوره، وتدمج الطرفين معاً وحدة لا تعرف الفواصل».
لقد ترك الشيخ إمام وراءه أغنية جماهيرية أممية كحق مشاع، لم يغنِ الشيخ إمام لتكون أغنيّاته حكراً عليه، بل كان يغني كلمات ذات شعور أمميّ غنت عن فلسطين وفيتنام وجيفارا ولبنان وغنت عن العروبة بمعناها الواسع والطبقة الكادحة بغض النظر عن أصلها وفصلها، لذلك كان إمام ونجم واعيين بشكل كبير بأن أغنيّتهما ملك من يسمعها ويحفظها ويرددها بعدهما.
وقد أعيد تقديم الأغنيّات بالفعل في عديد من البلدان مثل تونس من خلال صوفية صادق ولبنى نعمان والأردن من خلال لارا عليان، بل إن فرق أحباب الشيخ إمام توجد في تونس وفلسطين والأردن لا يزال يشارك في حفظ إرث إمام وتردده، بينما كان إرث الشيخ إمام في مصر كنبي لا كرامة له في وطنه.
حتى أعادت ثورة يناير 2011 الشيخ إمام من جديد للذاكرة المصرية، كان مرد ذلك إلى مشاركة الشاعر فؤاد نجم بنفسه في المظاهرات بميدان التحرير وإلقاء عديد من القصائد أبرزها بالطبع «شيد قصورك»، وقد غُنيت عديد من الأغاني بشكل حيّ من منصات الميدان ولا يزال «يوتيوب» يحفظها.
ولكن ما انفض الجمع، وعاد الجميع إلى ثكناته، وهُزمت الثورة، ظل الشيخ إمام حاضراً أيضاً بأغانيه ولكن في تلك المرة في فضاء موسيقى الروك وهي التجربة الجريئة التي قدمتها المطربة مريم صالح إذ أعادت تقديم عديد من أغاني الشيخ إمام بشكل موسيقي حديث التي لاقت هجوماً بقدر الاحتفاء وكان هذا متوقعاً.
رغم حسن النية لدى مريم في تقديمها عديداً من الأغاني الفلكلورية والسياسية المهمشة، فإن أسوأ ما قدمته تلك التجربة لإمام بخلاف أنها تغير روح الأغنية المميزة له بالتخلي عن ضربة العود الشهير، أنها نقلت تجربة الرجل إلى فضاء الأندرجراوند الذي فرغ الأغنية من أي حمولة سياسية أو ثقافية أو فنية كانت مرتبطة بها كالأصل، وأصبحت كلمات فؤاد نجم مجرد كلمات للتشدق من المطربين، أما موسيقى إمام بحد ذاتها فقد اختفت من الأغنية.
في فيلم «طير أنت» يقدم أحمد مكي واحداً من أكثر المشاهد التي لا يزال صداها حاضراً، وهي شخصية الثري الذي يريد أن يبتاع قميصاً على الموضة، فتعجبه أحد القمصان التي عليها صورة جيفارا معتقداً أنها لبوب مارلي وحالما يوضح له البائع أنه جيفارا، يسأله «معروف هادا؟».
يختصر ذلك المشهد كثيراً من الكلام الذي يمكن أن يقوله جيل ليبوفتسكي في كتبه عن التسليع وعلاقتنا بالاستهلاك التي أصبحت مميزة لعالم ما بعد الحداثة وبسبب العولمة طالت دول العالم الثالث أيضاً وإن كانت بشكل منقوص.
لم تكن حالة الشيخ إمام في دخولها إلى فضاء الاستهلاك استثناء، حيث يستطيع نمط السوق دائماً أن يُبهر الناظر بمفارقات لا سخرية تفوق سخريّتها، فمدينة ترير الألمانية الصغيرة تستجلب عديداً من الزوار لزيارة منزل كارل ماركس بتذكرة تبلغ تسعة يوروهات، كذلك صورة غيريليرو هيروويكو الشهيرة للمصور الماركسي ألبرتو كوردا التي التقطها لتشي جيفارا وتحولت إلى واحدة من أهم السلع التي خلقت فِتشيّتها الخاصة من خلال طبعها على ملايين القمصان والأكواب والأعلام والشنط، وكما رأينا حضورها الساخر في مشهد الفيلم.
إن حرية الفن شيء لا يمكن تحديد حدوده كبراءات الاختراع، لذلك لم يكن من الممكن منع ما فعلته شكون في حق أغنية «شيّد قصورك». يمكننا القول إنه حين قدمت فرقة شكون جزءاً من أغنية «شيد قصورك» أمام أبراج العلمين الجديدة، هي لم تقدم الأغنية بالفعل، ولكن قدمت أغنيتهم «Build Your Castles» كعنوانها على القناة الرسمية على اليوتيوب، التي يخلو التعريف بالأغنية من أي ذكر أو شكر للشاعر نجم أو الشيخ إمام، لذلك يمكننا أن نعتقد أن مستمعي الأغنية في الساحل الشرير لم يصل إلى علم أغلبهم من الأساس أن تلك الأغنية خرجت من مخاض كانت تعانيه بلدهم مصر من قبل في السبعينيات، والمثير للسخرية أنها أصبحت تعاني منه بشكل أكثر استفحالاً.
لذا في أحد منتجعات Silver Sands بالعلمين الجديدة، عانى الشيخ إمام من حالة اغتراب وتغريب، فالاغتراب إذ كانت أغنيته من مؤدٍ إلى متلقٍ مختلفين كل الاختلاف عن حالة الأغنية الأصلية التي وُلدت فيها، وتغريب يتعلق بالأغنية ذاتها التي أصبحت ذات موسيقى أوروبية خالية من أي طباع شرقي، بالأحرى تصلح لإحدى رقصات الديسكو أكثر منها تعبيراً عن حالة مجتمع، وطريقة نطق وأداء للكلمات كأنه بعربية مكسرة.
ليست لأغاني الشيخ إمام قدسية، ولكن لها خصوصية تجعل من ترديدها في غير مكانها أمراً يُشبه الرقص في المآتم. يُلخص الناقد فيصل دراج علاقة أغاني الشيخ إمام بالثقافة الشعبية والسياق كالتالي «ربّما كان في الفضاء الذي كانت تشعله أغاني إمام قرانٌ سعيد بين وعيٍ سياسيٍّ يَنشد العدل، ونزوع روحيّ - معنويّ إلى كسر القيود وتعطيل الأقفاص والطيران إلى عالمٍ آخر نظيف، واسع الأرجاء ومتقشّف الأثاث. ليست المدينة الفاضلة، في التعريف الأخير، إلّا عالم الحرّيّة والكرامة، الذي يتراءى في أغنيةٍ شعبيّة - جماعيّة تغاير كلّيّاً الطرب الاستهلاكيّ».
فإذا كانت الأغنية الشعبيّة تعبيراً عن خبرة متراكمةٍ، تعْرف وتحلم بأكثر ممّا تعرف، وتظلّ مشدودةً إلى القيَم، فإنّ الفنّ الجماهيريّ، يبدأ بالبيع والشراء، ويوطّد الذّوق الذي يساعد على البيع والشراء، وقد تمتدّ سطوته، أحياناً، إلى درجةٍ تعطّل الذوق السليم، وترمي على الفنّ الحقيقيّ بأشكالٍ مختلفةٍ من العزلة والاغتراب. إنّه تجارة، لها شكل الفنّ، تقوم غالباً على الإعلان والصورة والرَّيع، ولا تعبأ بمعايير الفنّ بقدْر ما تحتفي بالإعلان وبصور المعلـَن عنه»